«ستراتفور»: ما الذي يمكن أن تتعلمه سوريا الحديثة من سوريا العثمانية؟

الأحد 6 مارس 2016 04:03 ص

يبدو المستنقع الذي تحيا فيه سوريا المعاصرة معقدا بشكل يشابه تلك الفترة التي خرجت فيها من تحت أنقاض الإمبراطورية العثمانية، كان هناك مزيج كبير من الثقافات والأعراق التي تعايشت بسلام تحت حكم السلاطين ولكن القوى الأوروبية التي ورثت الأرض بعد الحرب العالمية الأولى كانت غير معتادة، أو غير متهمة، بالحفاظ على العلامة التجارية الفريدة للتعددية السورية. وجاءت عقود من الحكم الاستبدادي في أعقاب ذلك. اليوم، تتحدث الفصائل المتحاربة في ساحة المعركة السورية بلسان الفعل عن تفكك المجتمع المتماسك في سوريا. ورغم ذلك تبقى الدروس المستفادة من الإمبراطورية العثمانية قائمة. بالمضي قدما، فإن هذه الدروس ربما تمثل الأمل الأفضل من أجل التحول من دولة فاشلة إلى أمة موحدة ومتنوعة.

بعد قرون من الحكم العثماني، خرجت سوريا من الحرب العالمية الأولى في شكل جديد تماما. تحت حكم العثمانيين، لم تكن المنطقة التي تعرف اليوم باسم سوريا كيانا موحدا، ولكنها كانت مجموعة من الولايات والمحافظات التي تضم أراضي ما تعرف اليوم على أنها لبنان وإسرائيل (الأرض المحتلة). لم يكن هؤلاء السكان متجانسون، حيث تألفت الولايات العثمانية السورية من مجموعة مختلفة من الأعراق والهويات الثقافية والهياكل الاقتصادية. بعد 400 عام من حكم العثمانيين، أصحبت بعض خصوصيات النظام السياسي أكثر رسوخا. في سوريا الحديثة ما قبل الحرب الأهلية، تم تقسيم المدن إلى أحياء متميزة ثقافيا: يمكن أن تجد في أحدها الأرمن، سوى آخر يسكنه الآشوريون، وهكذا. أتذكر بوجه خاص الأسواق الكردية، حيث كان يأتي البائعون من الريف يرتدون ألوانا زاهيا من أجل بيع الفواكه والخضروات.

في الواقع، فإن الطريقة التي كانت تحكم بها سوريا قد عززت استقلالية هذه الطوائف العرقية والدينية المتميزة. طبق العثمانيون سياسة تعددية بهدف استرضاء الدول المختلفة، وقمع صعود الحركات القومية، حيث سمحوا لكل من اليهود والمسيحيين والمسلمين بتأكيد هوياتهم الخاصة وبالتالي لم يكونوا في حاجة للتنافس على السلطة. كان لكل جماعة دينية ممثل في إسطنبول من أجل تنظيم شؤونها بما في ذلك التعليم والخدمات والأعمال الخيرية والاجتماعية وحتى بعض المعايير القانونية. تحتفظ كل طائفة بنظامها الداخلي في الزواج والطلاق والميراث وتوزيع وتحصيل الضرائب. ظلت بقايا هذا النظام موجودة في سوريا الحديثة، حيث يعلم الجميع أن بإمكانك الذهاب إلى الحي الأرمني من أجل الحصول على الفضة.

بعد الحرب العالمية الأولى، اقتسمت القوى الأوربية الأرض التي حكمتها الإمبراطورية العثمانية المهزومة، ومن المؤكد أن الأوروبيين قد تسللوا إلى الشرق الأوسط عبر سنوات متمتعين بالإعفاءات الضريبية والأمن المكفول لهم بموجب عقود الإذعان بين حكوماتهم وبين العثمانيين. ولكن بعد الحرب، فقد تفاوضت القوى الأوروبية من أجل ترسيم حدود نفوذها في المنطقة. نتيجة لذلك، تم التوقيع على اتفاق سري تفاوض عليه الدبلوماسيون البريطانيون والفرنسيون بين «مارك سايكس» و«فرانسوا جورج بيكو»، في ربيع عام 1916. لم تحترم حدود سايكس بيكو تاريخ المنطقة أو المخاوف السياسية للجماعات داخلها. وبدلا من ذلك، فقد ركز الاتفاق على كيفية تقسيم الشرق الأوسط بين البريطانيين والفرنسيين. في الواقع، فإن الطريقة التي تم من خلالها التوصل لهذا الاتفاق وتوقيعه بإمكانها أن تكون ذات صلة مباشرة بعدد من الصراعات في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. قررت فرنسا أن تظل قوة مهيمنة في الشرق الأوسط وذلك من خلال فرض الانتداب الفرنسي على مناطق جنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان. تم تقسيم السكان ضمن حدود سوريا الكبرى بطريقة مصطنعة وتم تشريد العديد منهم.

تحت الانتداب الفرنسي، تغيرت الحياة في سوريا بشكل كبير. تقلصت مساحة الحكم الذاتي التي كانت الجماعات المختلفة تحظى بها بشكل كبير تحت حكم العثمانيين. اتسم الحكم بطابع شديد المركزية حيث تم حظر الصحف وتقييد النظام السياسي. وبالإضافة إلى ذلك، فقد واصلت فرنسا سياسة فرق تسد حيث منحت امتيازات لبعض الأقليات في حين مارست التمييز ضد أقليات أخرى. كان المسيحيون الموارنة هم الأقلية المفضلة لدى الفرنسيين وربما يكون ذلك نابعا من رغبتهم في حماية أنفسهم من الأغلبية السنية. وعلى الرغم من أن سوريا أعلنت استقلالها في عام 1944، فقد تبنت الحكومة الجديدة نفس النمط الاستبدادي للمسؤولين الفرنسيين الذين أزاحتهم. قام الحكام الجدد بتهميش الأقليات مثل الشيعة والأكراد والآشوريين والدروز والأرمن. وأصبحت أنشطة أجهزة الاستخبارات أحد الحقائق المميزة لحياة الشعب السوري الذي لم يجلب له الاستقلال الكثير من الرفاهية.

الآن، بعد خمس سنوات من الحرب الأهلية في سوريا، فإن ذات التحديات التاريخية لا تزال قائمة في المنطقة. لا تزال سوريا تمثل ساحة لمعركة النفوذ بين القوى العالمية وساحة للصراع الداخلي بين مجموعة من الطوائف الدينية والعرقية. قبل الحرب، كان التراث الثقافي المتنوع للسوريين مصدر فخر وطني كبير، واليوم أصبح هذا التنوع مصدرا للعنف. عندما يتحول النظام السياسي في سوريا في نهاية الحرب، فإن هذه المجموعات سوف تتنافس على السلطة داخل النظام الجديد، الذي، مثله مثل الحكم الاستعماري الفرنسي السابق، قد يكون موسوما بالمركزية والقهر. ولكن هناك خيار آخر. يمكن لأي حكومة سورية جديدة أن تأخذ العظة من حكام ما قبل الحرب العالمية الأولى وتمكن المجموعات المختلفة من أكبر قدر ممكن من الاستقلالية والحكم الذاتي وربما قدر ما من التقسيم.

حتى نشوب الحرب، فإن الرئيس السوري «بشار الأسد» كان يجسد بعض الاحترام العثماني للأقليات. تحت حكم «الأسد»، تم متوازنة التقسيم الطبيعي للجماعات العرقية والدينية بما يلبي احتياجات هذه المجتمعات. رأيت هذا بنفسي في دمشق، حين كنت صديقا لبعض من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي رافقت الطلاب الدروز من سوريا إلى (إسرائيل) ذهابا وعودة في كل صيف، فقط حتى يتمكنوا من زيارة عائلاتهم عبر الحدود. وقد سمح للجالية اليهودية الصغيرة التي بقيت في سوريا أيضا بزيارة عوائلهم في (إسرائيل).

من أجل المضي قدما يجب على سوريا الجديدة أن تتبنى نفس النهج البراغماتي. ويجب على قادتها أن يتحلوا بالاستعداد لاستيعاب الجماعات العرقية والدينية المتنوعة التي سبقت ظهور الدولة الحديثة بفترة طويلة والتي تعتمد في ارتباطها بالأراضي على أحقيتها التاريخية وتراثها الثقافي. الحدود التي تم رسمها بموجب اتفاقية سايكس بيكو قبل مائة عام ربما تكون قد استنفذت نفعيتها (بفرض أنها كانت نافعة أصلا) وربما تكون عملية إعادة انظر فيها في ضوء الواقع الاجتماعي والسياسي الأعمق، هي البداية نحو حل دائم وفعال للأرض في سوريا.

  كلمات مفتاحية

سوريا الدولة العثمانية بشار الأسد الشيعة الدروز

من «سايكس بيكو» إلى «كيري لافروف»

الثابت والمتغير بعد مئة عام على «سايكس بيكو»

«سايكس بيكو» جديدة في سوريا

تفكك دول «سايكس ـ بيكو»

اتفاقية «سايكس - بيكو» رسمت حدودا على الرمال يمحوها الدم الآن

خريطة: ما حققته حدود الدولة العثمانية وفشلت في تحقيقه حدود «سايكس بيكو»

«مرج دابق»: المعركة التي غيرت وجه الشرق الأوسط قبل 500 عام